30 - 04 - 2025

ترنيمة عشق | حدّوتة قَبل العيد

ترنيمة عشق | حدّوتة قَبل العيد

اليوم يا ولدي لن أحكيك حدّوتة قبل النّوم؛ فالنّوم قد رحلَ، وتهدمتْ الغرفة، وتحطّمتْ الأَسرَّة، وربما بعد دقائق أو لحظات ينهار بقية الدّار والجدار، فلتلقِ نظرة وداع لتحفظه ذاكرتك الصّغيرة الكبيرة؛ كما حفظَتْ آلاف الذّكريات الحزينة وقليل منها بهيجة، لا تدع الحزن يسكن عينيك؛ فغدًا تُشرق شمس جديدة.. فعلىٰ أرضنا ما يستحق الحياة.

حين تذهب لمدرستك صباحًا؛ لا تتألم إن وجدتها قد انهارتْ وضاع مقعدك وتحطَّم لوح مُعلمِك، لا تبكِ يا ولدي وعُدْ، وسأحاول أن أعلِّمكَ قدر ما أستطيع.

في طريقك ارفَعْ رأسك، واحمِل حقيبتك علىٰ ظهرك، واحرص علىٰ بقايا دفاترك وقلمك المكسور فهي آخر ما بقِي لك، واحذرْ عدوكَ الصّـ..ـهيو..ني الملعون؛ لكن لا تهرب، وإن أوقفكَ مستترًا بسلاحه البغيض لا تخفْ، دعه يُجردك من ملابسك، ويفتش حقيبتك بحثًا عن سلاحك الحجريّ البدائيّ، وحين لا يجد شيئًا؛ انظرْ في عينيه بتحدٍ، صوِّب إليه نظراتك الكارهة فلن يستطيع أن يقتلعها من ذاكرته.. ولن يهدأ باله أبدًا.

في طريق عودتك يا بُنيّ؛ تجنَّب المرور علىٰ "حي الشّجاعيّة"، فالطّرقات ملأىٰ بجثامين الشّـ..ـهداء، ولم تعد سيارة الإسعاف قادرة على حملهم، فالمصابون والجرحىٰ يفترشون أرض المشفىٰ الوحيد.

أُذَكِّركِ يا ولدي مذ سنوات قليلة لم تكن تفقه معنىٰ الموت ساعة استشهد والدك، وظللتَ جواره تداعبه وتلعب بأصابعك في دمه، ولعلك لعقتها؛ الآن صرتَ صبيًّا، وأدركتَ حُرمة الموت.

قد تأكدتُ من نضج عقلك؛ يوم وجدتـك تحفظ القاموس الذي وُضعت كلماته من أجلنا نحن فقط، حروفه كلها تعني: الهدم والتّشرد والتّهجير والتّفجير والحرمان وتكسير العظام والاحتلال والإرهاب والجوع والأَسر والسّجون واللجوء والاغتصاب والمخيمات وترك الأوطان والعودة والكرامة والقضيّة والأرض والعرض.

وكي تختصر الوقت اُسْلك طريق المقابر؛ فهو أقصر الطّرق لبيتنا، ستجد الخالة "أم فارس" تسقي "الصُبّار" علىٰ مدفن "ابنها" زميلك في مدرسة  "الطفل السّعيد" (!!)، وستجد خالتك "أم إيمان" تبكي "ابنتها" التي ماتت تحت أنقاض بيتهم المهدّم بنيران قصفٍ أحرق معه "بيّارة برتقالهم"، قل لها لا تبكِ.. فما زال لديها صِبْية ينتظرون إحدى الحُسنيين، بعدها اُعبرْ الطّريق وامضِ مِن الموازي "لمنظمة رعاية حقوق الحيوان"، هو أقل خطرًا، فالدبابات لا تستطيع الدّخول فيه (!!).

الصّـ..ـها..ينة يا ولدي مسلحون بالرّشاشات فقط، يصيدون الأطفال -علىٰ سبيل التّسلية- كالعصافير، وأنا أثق في قدرتكَ علىٰ الجري السّريع.

إذا مررتَ بجنازة؛ فامشِ فيها ولا تتردّد، ربما تكون لمُعلمكَ أو زملائك: "جِهاد وعمر وعبيد"؛ الذين تمزّقت أجسادهم اليوم برصاصٍ مُحرَّمٍ دوليًّا، لكن إذا شعرتَ بالخطر فلا تحاول البحث عن ملجأٍ أو مخبأٍ؛ لأنّك لن تجد (!!)، حاول الهرب بسرعة، فإن تعُدْ إليَّ جريحًا خير من أن تُؤخذ أسيرًا.

وإن جئتني شهيدًا فلن أبكيك يا ولدي.. بل سأطلق زغرودة الشّهادة كما فعلتُ حين استشهد "محمد الدُّرة" و"أصدقاؤك الأربعة" وهم يلعبون على شاطئ بحر "غزّ..ة"، وصديقتك "مارية" التي انهار عليها سقف غرفتها وهي تلهو بدُميتها، و"مريم"  أتذْكُرها ؟ إنّها رفيقتك ذات الثّمانية أعوام؛ والتي ذبحها الصّها..ينة في صفّها الدّراسيّ حتى سال دمها علىٰ دفترها.

كلهم يا ولدي ذهبوا إلىٰ عالَم "البقاء والإحساس"؛ غابت ملامحهم وبقيت ذكراهم وضحكاتهم ومداعباتهم؛ فالشّهداء يَعتقون ذواتهم وهم يبتسمون.

إن عُدتَ يا بُنيّ من مدرستك؛ فلن تجدني متعبة ككل يومٍ من أعباء المنزل، ولن أُرهَق من تنظيف فِراشِك الذي تبُول عليه كل ليلة مذ استشهد والدك، وقتها لازمكَ الخوف والرّعب، من اليوم يمكنك أن تبُول براحتك على الأرض وأنت نائم (!!)، فالشّمس تتكفل بتجفيفها بعد أن تَحطّم سريرُك.

حين تعود ستجد مفاجأة في انتظارِك؛ فعمَّتك "أم رحمة" التي اختفت منذ أيام؛ عرفنا أن دبابة صـ..ـهيو..نيّة قد دهستها، وظل صغارها بجوار جثتها ثلاثة أيام يبكون حتى تمكن المارّة من دفنها، وسيأتينا أولادها ليعيشوا معنا؛ فعليك ان تعلمُهم الرّسم، عليك أن تبحث في حقيبتك عن اللون الأخضر والأصفر والأزرق فهم مثلك يكرهون الأحمر.

وعندما تجيئ يا ولدي؛ ولا تجدني قد أعددتَ لك طعامًا فلا تحزن؛ فأشجار "الزّيتون" قد اقتُلعت، ولم يعد لدينا طحين كي أصنع لك الخبز السّاخن الذي تحبه، لكني مازلت أخبيء لك في ملابسي كسرة خبز جافة يمكنك أن تبللها بالماء.

وإذا وجدتني يا حبيبي تحت الأنقاض ممزّقة الجسد فاسترني بثوبي وشالي، ولا تبكِ؛ فالوطن لم يضع كله بعد، فوَحده يستحق دمعك الغاليّ، وتذَكّرْ أنّك إذا أردت الحياة فكن مستعدًا للموت.

سأنتظركَ تأتيني لتقرأ الفاتحة وتسقي الصُبّار، فطريق المقابر أنت تحفظه جيدًا، وعندما تعود وحدك للدار أو ما تبقىٰ منها؛ العبْ مع أولاد عمتك واعتن بهم، ولا تبحث عن ثياب العيد ولا حلوىٰ العيد؛ فلم أستطع أن أُعدّها لك، لأن جارتنا "أم سُهيلة" التي كانت تساعدني في السّنوات الماضية طعنها الغاصب المحتل في بطنها، وأفرغ جنينها !!

فهل ستسامحني يا حبيبي حين تسمع تكبيرة العيد وأنت تواريني التّراب ؟ فقَدَرُكَ يا حبيبي أن يكون عِيدك لا يشبهُه عيد.
---------------------------
بقلم: حورية عبيدة

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | إعلام زليخة